كلية الآداب واللغات

https://www.univ-soukahras.dz/ar/faculte/ll

العدد الرابع من مجلة رؤى فكرية/ أوت 2016

 

النهائي3 (1)

افتتاحيّة رئيسة التحرير

أدبنا العربيّ: هل من عالميّة ممكنة؟

 

     يُعدّ النزوعُ نحو العالميّة واقتحامُ فضاءاتٍ أرحب للتلقي والتفاعل مطمحَ أيّ أديبٍ أو مبدعٍ أيّا كانت قوميّته أو زمنُه أو أسلوبُه في الكتابة والإبداع، حيث يبدأ الطموحُ خافتا وبسيطا غايتُه الأوليّة الوصولُ إلى نخبةٍ من القرّاء المحليّين ومناورة وعيهم، وتحريض أسئلتهم، ثمّ يرتفع سقفُ التطلّعات شيئا فشيئا تغذّيه جملةٌ من الدوافع والمحفزات، أهمّها نجاحُ الكاتب مع جمهورٍ واسعٍ من أبناء جلدته وبالتالي اتساع دائرة قرّائه، وما يلي ذلك ويستتبعه من كثافة إصداراته ونفاد نسخ أعماله لدى أول صدورها وبالتالي توالي طبعاتها، وترشيحها أو حصولها على عديد الجوائز والتكريمات، ومن ثمّة انفتاحها على لغة الآخر واقتحامها مجالات تلقّيه بترجمتها إلى مختلف اللغات العالميّة، وتعدّد طبعاتها ضمن نطاق هذه اللغات، فضلا عن انفتاحها على مجالات التلقّي البصَريّ وإقبال صنّاع السينما والموسيقى والتشكيل على اقتباسها واستلهام أجوائها، ممّا يعني وصولها إلى العالميّة وضمان كتّابها ما تمنّوه مرارا من شهرةٍ وذيوع صيت.

     ولئنْ تفاوتت معايير هذه العالميّة، واختلفت تدرّجاتها، بين موضوعيّةٍ تخصّ أصالة النصّ ومتانة حضوره، ونسبيّةٍ تثير خلفها دوما كثيرا من الارتيابات والالتباسات، وتصبّ في صميمها حول هويّة الكاتب وقوميّته، وطبيعة الموضوعات – المحدّدة مسبقا – لأعماله، فإنّ الإشكال الجوهريّ الذي يشغلنا هو عن مدى حظوة أدبنا العربيّ – قديما كان أم معاصرا – ببعضٍ من ملامح تلك العالميّة وأطيافها، ممّا يمكن ملاحظته في مجموع الأعمال العربيّة الشحيحة جدا التي استطاعت فرضَ نفسها على المتلقين العرب وعلى الآخر كما هو الحال مع أعمال “نجيب محفوظ” و”محمد شكري” و”إبراهيم الكونيّ” وبعضهم من المعاصرين، وكما في سفر العرب السرديّ الكبير “ألف ليلة وليلة” الذي غطّى على ما سبقه وتجاوز ما لحقه من أعمالٍ، وحظي بشهرةٍ كاسحةٍ لا يكاد يضاهيه فيها أيّ عملٍ آخر، الأمر الذي كاد أن يجتزئ الأدب العربيّ كاملا في هذا الكتاب، فلا يكاد يُذكر العربُ اليوم أو أدبُهم إلا وترد على الأذهان شخوصُ تلك الليالي وأبطالُها: “شهرزاد” و”شهريار” و”السندباد” و”علي بابا” و”علاء الدين” وغيرهم، ممّا كوّن مادةً دسمةً في الإعلام والسينما والموسيقى والباليه وسوى ذلك من مجالات الفنّ والإبداع.

     وهو ما يطرح السؤال حارقا وعميقا حول سرِّ هذا الاجتزاء، وحقيقة ذلك الاختزال: هل أدبنا العربيّ بما يضمّه من روائع ودُررٍ إبداعيّة غابرة وراهنة عاجزٌ عن طرق أبواب الآخر والحظوة باهتمامه أو في الأقلِّ إثارة فضوله؟ هل يرجع هذا إلى قصورٍ موضوعيّ أو تواضعٍ فنيّ؟ أم أنّه وليدُ انكفاء اللغة العربيّة ومحدوديّة مستعمليها ومتذوّقي الآداب والفنون بها؟ هل السبيل الأوحد للفت الانتباه في هذه الحال هو عن طريق الكتابة بلغة الآخر واقتحام مجاله القرائيّ بها؟ أم أنّه بمغازلته وانتقاء الموضوعات المثيرة لانتباهه والخادمة مصالحَه دون أن يكون لانتقائها مسوّغٌ فكريٌّ أو فنيّ كما يتفنّن في هذا كثيرٌ من ضعاف الموهبة وضِحال الخيال؟

     ولعلّ من العبث محاولة العثور على إجابات حاسمةٍ وقطعيّةٍ لمثل هذه الإشكالات التي أثبتت على مرِّ العصور نسبيّتها وزئبقيّة أوجهها؛ فلم تكن الموضوعات الشعبيّة الموغلة في محلّيتها عائقا – على سبيل المثال – أمام عملاق الأدب الكولومبيّ والعالميّ “ماركيز” (Marquez) الذي حصد بروايته الشهيرة “مئة عام العزلة” (Cien años de Soledad) جائزة نوبل للآداب سنة 1982، واستطاع أسطرة قريته النائية البعيدة “ماكوندو” (Macondo) فغدت قِبلة السيّاح من جميع الأصقاع، وغدت حكاياتها الشعبيّة الحميمة حكايات العالم كلّه ومأثوراته.

     ومن هنا يأتي محورنا الموسّع في هذا العدد الجديد عن: “أدبنا العربيّ ورهان العالميّة” الذي يناور أسئلةً كثيرةً عن واقع عالميّة الأدب العربيّ وآفاقها، حيث توزعت الأسئلة عبر تسعة بحوثٍ حول نقاطٍ كثيرةٍ، بعضها نظريّ كالبحث عن دور الدراسات المقارنة في عالمية الأدب العربي، ودور المقارنين العرب في التعريف بجماليّاته ورصد مكامن القوة والتأثير فيه، والبحث عن جملة التصوّرات الغربيّة المسبقة، المنتقصة من شأن هذا الأدب والمهوِّنة أمرَه، مع تأمّل احتمالات عالميّته الممكنة، وتراوحها بين حدّيْن متناقضيْن: مدِّ القوة وجزر الفعل، حيث تضيع الطموحات، وتصطدم التطلّعات براهنٍ صارمٍ، ينصاع لمنطق الأقوى، والأكثر نفوذا، إلى جانب البحث عن هواجس الأدب العالميّ وآفاقه المترقّبة في زمن العولمة والتكنولوجيا، والثورة المعلوماتيّة.

فضلا عن بحوثٍ تطبيقيّة، بعضُها عامٌ، كتتبّع وقع الجوائز عموما وأثرها المفصليِّ في تكريس حضور بعض الروايات وانتشارها وبالتالي عالميّة أسماء أصحابها وذيوع شهرتهم عكس آخرين قد يكونون أشدّ براعةً وأكثر إدهاشا إلا أنهم لم يجاوزوا دائرة المحليّ الضيّق لعدم حصولهم على مثل تلك الجوائز أو حتّى ترشيحهم لها.  وبعضها اختصّ برصد  تجارب عربيّة وجزائريّة ناجحة؛ كتجربة انفتاح بعض الروايات الجزائريّة على رحاب الثقافة الإيطاليّة، وإقدام كثيرٍ من المترجمين الإيطاليّين على ترجمتها إلى لغتهم عن نسخ فرنسيّة أو عن الأصل العربيّ، فضلا عن تتبّع ملامح الكونيّة في تجربة كلٍّ من: “رشيد بوجدرة” في روايته “ربيع” (Printemps) و”آسيا جبّار” في جملة أعمالها صوتا نسائيّا متفرّدا فرض حضوره في الأوساط الأدبيّة والأكاديميّة في فرنسا. ليُختم المحورُ بقراءةٍ لمشروع “إبراهيم الكونيّ” السرديّ وقد انفلت من طوق الصحراء النائية لينفتح على آفاق العالميّة ويعانق إشعاعها.

     وإلى جانب هذا الملف الواسع الذي يفتّق أسئلةً إشكاليّةً وينتهي بها، فقد حفل هذا العدد أيضا بجملة بحوثٍ أخرى تراوحت بين الدراسات الأدبيّة والأسلوبيّة واللغويّة؛ كالبحث عن ملامح التعالق النصيّ بين كلٍّ من: “بدر شاكر السيّاب” رائد الحداثة الشعريّة و”محمود البريكان” الشاعر البصْريّ الضنين جدّا – لأسبابٍ ذاتيّةٍ معقّدة – بنشر إبداعاته وإشهارها. إلى جانب البحث عن “الجذور الميثولوجيّة للتأنيث في اللغة العربيّة” و”التولّد” في “الإشارات الإلهيّة” وسلطة النحاة وموقفهم من التجديد في شعر أبي تمام، ليُختَم العددُ ببحثٍ يرصد علاقة التحليل الصوتيّ وارتباطه بسياق النصِّ.

     وسيرا على ما استنّته مجلتنا من الاحتفاء في كلِّ عددٍ من أعدادها بالفن والجمال ولوازمهما، فقد حظي غلافُ هذا العدد بلمسةٍ نبيلةٍ من المبدعة الإنجليزيّة ذات الأصول العربيّة “أمل بورتر”(Emily Porter) التي تكرّمت بإهدائنا لوحتَها الجميلة: “الحمامات الثلاث” (Three  Doves) 50´45) سم- 2013 زيت على كانفاس/ ( Oil on Canvas رسمتها سنة 2012 وعُرضت أولا في لشبونة بالبرتغال خلال معرض فنون البحر الأبيض المتوسط وتأثيراته على الفنِّ في أوربا، حيث فازت بالجائزة الأولى فيه، ثمّ انتقلت بعدها إلى متحف الفنون بريو دي جانيرو- البرازيل، وما تزال معروضةً فيه.

ولعلّ أهمّ ما يميّز لوحتنا هذه كونيّة موضوعها، وانفتاحه المطلق على هواجس الإنسان، وتطلّعاته الأزليّة نحو السكينة والخلاص؛ نحو الأمل والأمان، حيث المرأة – وعلى حدِّ تعبير مبدعتنا – عنوان العطاء، وحيث الحمامتان عنوان السلام، وحيث الاثنان معا – العطاء والسلام – يعنيان الحب: وتلك أقصى غايات وجودنا النسبيّ تحت الشمس.

واللافت للنظر في تجربة المبدعة “بورتر” أنّها لا تحترف الرسمَ فحسب، بل هي إلى جانب ذلك مترجمةٌ، وناقدةٌ، وأكاديميّة مختصّةٌ بالنقد التشكيليّ، وروائيّةٌ أيضا، اختارت رغم لسانها الأنجلوفونيّ أن تكتب بالعربيّة، فأغنت المكتبة الروائيّة العربيّة بــــــ”دعبول” و”سوسن وعثمان” و”نوار” و”البلابل لا تغرّد”، مؤكدةً بهذا أنّ اللغة لا يمكن أبدا أن تكون عائقا أمام الإبداع، وسائرةً على غير درب كثيرٍ من كتّابنا الذين اختار بعضهم الكتابة بلغة الآخر وبالغ في ذلك – حدّ التهافت – اعتقادا منهم ألا سبيل إلى العالميّة سوى هذا السبيل!

فشكرا لكِ أولا مبدعتنا الأصيلة أن منحتِ منبرَنا الأكاديميَّ الفتيَّ هذه الفسحة الفنيّة الراقية بحماماتك الثلاث، وبطاقات المحبّة والسلام المشعّة من أعطافها، وشكرا لكِ ثانيا أنْ قدّمتِ لنا نموذجا إبداعيّا يصبّ في الصميم من أسئلة ملف هذا العدد وإشكالاته المفصليّة.

     ولا يسعنا ختاما سوى أن نجدّد خالصَ الشكر والتقدير لأعضاء اللجنتيْن: العلميّة والاستشاريّة، من داخل الوطن ومن خارجه، الذين لم يدّخروا جهدا في سبيل قراءة مواد العدد وتقويمها وتوجيه الباحثين الأفاضل، الذين نشكر لهم أيضا ثقتهم الكريمة، وتجاوبهم السريع.  ولعلّ خير ما أثمرته هذه الجهود الطيّبة حصولُ مجلتنا في عددها الرابع وعامها الثاني على صفة “المفهرسَة” حيث أدرجت مؤخرا في قاعدة بيانات دوليّة، ممّا يعدّ تتويجا طيّبا لجهودٍ كريمةٍ، ومساعٍ مثابرةٍ، نسأل الله أن يعيننا في الثبات عليها، والمواصلة على دربها.

ونجدّد دعوتنا كالعادة لجميع الباحثين والمختصّين لمشاركتنا هذا السبيلَ، ونأمل معهم أن نسهم جميعا في الارتقاء بالبحث العلميّ وإثرائه.

رئيسة التحرير

د. بهاء بن نوار

فهرس

* افتتاحية رئيسة التحرير

1 / د. عبد القادر ميسوم:
دور الدراسات المقارنة في عالمية الأدب العربي………………………………………….. 01
2 / د. دليلة مكسح:
عالمية الأدب العربي وإرث التصورات الغربية……………………………………………. 19
3 / أ. رؤوف قماش:
عالمية الأدب العربي بين مدّ القوة وجزر الفعل…………………………………………….. 40
4 / أ.د سليمة لوكام:
البوكر للرواية العربية ، حكم قيمي أم قيمة عالمية؟ ………………………………………… 59
5 / أ. سعيدة حمداوي
الرواية الجزائرية في عيون المترجمين الإيطاليين……………………………………………. 71
6 / أ.د. عبد الوهاب شعلان:
النص المثقف وأسئلة الكونية، إطلالة على رواية Printemps لرشيد بوجدرة …………………… 89
7 / أ. شهرة بلغول:
آسيا جبار من أقاليم اللغة إلى أقانيم الهويّة……………………………………………. 103
8 / د. طانية حطاب:
إبراهيم الكوني ومشروعه السردي………………………………………………….. 116
9 / أ.د. نظيرة الكنز:
الأدب العالمي والتكنولوجيا المفهوم والعلاقات والآفاق…………………………………. 130
10 / أ.م.د. صباح عبدالرضا إسيود:
التعالق النصي والوزني بين شعري السياب والبريكان بين الحقيقة والأوهام……………………………….. 152
11 / د. رحاب الخطيب:
الجذور الميثولوجية للتأنيث في العربية……………………………………………….. 175
12 / أ.د. فائز طه عمر:
التولّد في كتاب )الإشارات الإلهية( لأبي حيان التوحيدي………………………………… 192
13 / د. سعيد شواهنه:
سلطة النحاة بعد عصر الاحتجاج، شعر أبي تمام أنموذجا………………………………….. 214
14 / أ. م. دة: عزّة عدنان أحمد عزّت و م. م: نرمين غالب أحمد:
التحليل الصوتي وارتباطه بالسياق القرآني في سورة مريم……………………………. 232