بدايات الفكر المقارن عند العرب والغرب
هذه النظرية تنطبق أيضا على الآداب فأولى مراحل تكونه هي انتاج اللغة ، وثانيها تنظيم هذه اللغة في أنظمة ووضع مفاهيم ودلالات خاصة بها ،وثالثها مرحلة التفنن من خلال أنساق لغوية يتواصل بها ويتفنن ويبدع في أغراض فنية وهنا يبدأ ما يسمي بالأدب فإذا كان موزونا سمي شعرا وإما فهو نثر..
وإن اتفقت جميع الأمم في استخدامها للغة استخدام فنيا،إلا أن آدابهم اختلفت لاختلاف الأنماط المغلقة المنتجة للغة المتداولة والرموز المتفقة عليها،فظهرت الآداب القديمة في بيئات مغلقة،وظهرت فكرة مايعرف بالشمولية والإقصاء فكل مايكتب بلغة القوم ينتمي لآدابهم ويشملها وماخالف لغتهم يقصى من الأدب والدراسة،"كما سادت النظرة التي يعتقد من خلالها كل شعب أن لغة غيره من الشعوب أقل قدرا،فعبرت اللغة العربية عن هذه النظرة بكلمة 'أعجمي'أي الحيوان غير الناطق أو الأجنبي الناطق بغير العربية،ونجد مثيلتها في اللغات الأجنبية 'بربر'المشتقة من الكلمة اللاتينية 'بربروس' لتشير منذ عصر الإغريق والرومان إلى معنى الأجنبي من ناحية وغير المتحضر من ناحية أخرى" . (2)[1]
فكان الأدب بناء منغلقا ومع مرور الوقت تحول الإبداع الأدبي إلى تقليد ميكانيكي آلي،واستمر الحال حتي القرن16 عندما بدأت الحياة تتغير في أوربا وظهر تفكير معرفي جديد يقوم على نظرة واقعية وتغير التفكير من منظور غيبي ماورائي إلى منظور واقعي،وفي القرن 17 م عرف الأدب تغيير جذريا ونشأ ما يعرف "بالقوميات "،على فكرة النسب أو الأصل الثابت وفكرة الحدود السياسية والجغرافية والدينية،والعنصر الذي يجمع البشرية فعلا "اللغة"،وهكذا تطورت اللغات المحلية وأصبحت رسمية ،وخرجت أوروبا من النظام الشمولي إلى التعددي ومن النظام الإقصائي إلى التمييزي.
ومع أن الموضوعات واحدة إلا أن طريقة التناول والتعامل معه تختلف من أمة لأخرى ومن أديب لأخر نظرا للموروثات والأنساق الأنثروبولوجية التي كونته،كما أنهم متحوا أيضا من بيئاتهم المحلية ومن مجالاتها المتعددة، فتشكلت القوميات الأدبية الأوربية متقاربة في أشياء ومتباعدة في أخرى،ودارسي الأدب بدأو يدركون أن دراسة الأدب لا تكون داخلية وإنما عن طريق دراسة العناصر الخارجية القديمة منها والحديثة ، ودراسة علاقة التفاعل بين الأدب القومي والآداب القديمة بالدرجة الأولى ثم الآداب الحديثة التي بدأت التفاعل فيما بينها، فانتقلوا من الشمولية و الإقصاء إلى الفردية داخل التعددية وادراكهم بأنهم كتلة من مجموعة الكتل ،والتكامل بين العوامل الداخلية والخارجية وفق نظام لغوي خاص،ونظام جمالي خاص هي معطيات الإبداع الأدبي الجديد وبالتالي تغيرت معطيات دراسي الأداب القومية.وهكذا بدأ يتشكل المفهوم المقارن في الأدب بتتبع عملية الأخذ والعطاء،و دراسة الأدب القومي وعلاقته الأدبية الخارجية بالآداب القديمة و الحديثة.
وفي ق 18م بدأ عهد التبادل السياسي والاقتصادي والفكري والأدبي في فرنسا واطلق علي هذا التفاعل مصطلح" الأدب المقارن"،بناء على تطور وانتشار هذا المصطلح في الميادين الأخرى كـ"علم التشريح المقارن" و"الجغرافيا المقارنة"،وبالنسبة لمفكري ق 19م المكون الأساسي في تحديد القومية هو "اللغة"،وهو العنصر الثابت الذي يجمع الكتلة البشرية ويجعلها تنتظم في ذوق وعلى هذا الأساس اعتبر شرط اللغة شرط أساسي للتميز،فكانت اللغة الفيصل بين قومية وأخرى وذوق وأخر وأدب وأخر...وفكرة الحدود اللغوية في الأدب المقارن كانت قائمة وسائدة،فكل ماهو مكتوب بالفرنسية هو أدب فرنسي ولا يستهلكه إلا الفرنسي،وهو خاص بهم لغرض جمالي خاص ولأنه بلغتهم الخاصة.
فظهر الوعى المقارن في ق 18م "فتوثقت الصلات بين الآداب الأوروبية أكثر مما كانت عليه،واشتد شوق الباحثين إلى التعرف بآداب آخرى لم تكن معروفة كآداب أهل شمال أوروبا وكالأدب الانجليزي والألماني في فرنسا" (3)[2]
أما الأدب المقارن فظهر في بداية ق 19م بالضبط سنة 1827 مع أستاذ بجامعة السوربون "فيلمان" الذي أخذ منذ ذلك التاريخ يستخدمه في محاضراته وقد غلب هذا المصطلح فيما بعد على كثير من المؤلفات والدراسات حتى فرض نفسه على الدراسات المقارنة،وكان الباحث"جون جاك أمبير"من أوائل من نبهوا إلى الأهمية التاريخية لدراسته.
مع أن المنهج المقارن هو وليد ق 19م إلا أن الفكر المقارن قديم قدم الأدب ذاته، فكانت له صور متعددة في الأدب العربي،ارتبطت بانتاج الأدب وتذوق المتلقين له ،وقفت صور من أحكامهم النقدية على المشابهة والمفاضلة والمقارنة ،ليرجح أحدهم على الآخر أو تفضيل عمله على غيره،فكانت الأسواق الأدبية كعكاظ وغيرها فضاء لمثل هذه الموازنات والمقارنات ،كتفضيل أم جندب لعلقة الفحل على امرئ القيس،والموازنة بين البحتري وأبي تمام أو بين حافظ ابراهيم وأحمد شوقي..،ووجدت مثل هذه المقارنات أيضا في الأدب الفرنسي كالموازنة بين "كورني" و "راسين"و"فولتير"و"راسين"و"باسكال"و"مونتيني"..في حين أن مثل هذه البحوث الموازنة لاتدخل في اطار الأدب المقارن لأنها مبنية على فكرة المفاضلة ولاتتعدى نطاق الأدب واللغة الواحدة.