بداية الفكر المقارن
لينشأ الأدب المقارن لا بعد من وجود مكوناته كالعلاقات اللغوية بين الآداب،لكن العرب قديما كانوا يعيشون نظام الشمولية أو الإقصاء،ووجوده كان في شكل مفاضلات وموازنات كحوكمة أم جندب ومفاضلات النابغة،حتي أنه تم وضع مؤلفات في الموازنات كالوساطة بين المتنبي وخصومه ' للقاضي الجرجاني و"الموازنة بين أبي تمام والبحتري 'للآمدي غير أن هذه المفاضلات والموازنات كانت داخلية لم تخرج عن إطار اللغة الواحدة ،ولم تستند على أساس منهجي فكانت ذوقية ذاتية
وحتى في انفتاحهم على الأمم الأخرى لم يكن بصورة واضحة لأن نظرة الأمم الأخرى إليهم كالفرس والروم كانت نظرة احتقار فعدتهم قطاع طرق،فلم تسمح هذه الصورة في خلق جو للمقارنة الأدبية
ومع مجيء الإسلام انتقلت الأمة العربية من أمة منبوذة إلى أمة يسودها العقل ورغم اختلاطهم مع الفرس والأتراك إلا أن الأنا المتضخمة التي تشكلت عندهم آنذاك لم تسمح بوجود مقارنة منهجية أو تطورها إلى منهج نقدي قائم بذاته،لأنها كانت عبارة عن مفاضلات تفاخرية قامت على أحكام مسبقة بأفضلية المنتوج العربي على غيره في حين أن الأدب المقارن هو رؤية لدراسة الذات من خلال الآخر انطلاقا من مستوى متقارب،كمقارنة البيروني للعروض العربي والهندي
والجاحظ بين البلاغة العربية والهندية،فتحدث في'البيان والتبيين'عن بلاغة الفرس والهند والروم،وأشار إلى بعض الخصائص المشتركة بينها وبين بلاغة العرب،لكن مقارناته بين آداب الأمم الأربعة الكبرى في عصره،لم تكن مبنية على منهج بل اعتمدت على أفكار ذاتية أكثر منها موضوعية.وقارن بين الشعر الفارسي والشعر الإغريقي والشعر العربي فوجدها تختلف من حيث الإيقاع والقافية،واستحسن بلاغة الأمم الكبرى واستهجن البعض الآخر،تحدث في 'البخلاء"عن صورة الفرس
ليغرقوا بعدها في سبات فكري ومعرفي حتى ق19 ومع ظهور الإرساليات التبشيرية،وحملة نابليون بونابرت على مصر وما نتج عنها من ظروف سياسية وترفيهية،وظهور المطبعة،و استلاء محمد على للحكم في مصر وهدفه لبناء دولة عصرية جديدة وكانت من أبرز ملامحها وخطاها البعثات الطلابية لإيطاليا وألمانيا وفرنسا..،وبسبب الصحافة والتأليف بأشكال مختلفة بدأوا الانفتاح على الأمم والآداب الأخرى،فظهر تيار يدعو إلى التفاعل مع الآخر في مختلف الأجناس الأدبية على يد كل من:أحمد فارس الشدياق،نجيب حداد،قسطاكي الحمصي،سليمان البستاني،عثمان جلال،روحي الخالدي،جبرا ضومط، وتجلي هذا الانفتاح في بعض المواقف الأدبية:
-- رافع رفاعة الطهطاوي: في كتابه'تخليص الأبريز في تلخيص باريس' قارن فيه الظواهر الأدبية والثقافية والاجتماعية بين الفرنسيين والعرب.
-- أحمد فارس الشدياق:من خلال كتابه'الساق على الساق فيما هو الفارياق' قارن بين الشعر الأوروبي والشعر العربي وقال بتفرد اللغة العربية ،كما قارن بين العادات والتقاليد بين الأوروبيين والشرق،
- تناول سعيد الخوري الشرتوني في مقالته 'البيان العربي والبيان الإفرنجي'في مجلة 'المقتطف'1902التشابه والاختلاف بين البيان العربي والبيان الغربي دون التطرق إلى التأثير أو التأثر،كان يهدف لإظهار محاسن وعيوب البيانين.
-- سليم البستاني: 1904 ترجم إلياذة هوميروس تناول أوجه التشابه والاختلاف بين الأدب العربي والأدب اليوناني،وقارن بين الملحمة اليونانية والشعر العربي القصصي،فرق بين السرقة والتأثر فالتأثر يدل على كثرة المطالعة والإفادة من الآخر.
- نجيب حداد مقاله الشهير"مقابلة بين الشعر عند العرب والإفرنج"رأى من خلالها مفهوما جديدا للشعر"هو الفن الذي ينقل الفكر من عالم الحس إلى عالم الخيال،والكلام الذي يصور أرق شعائر القلوب على أبدع مثال.."( 1[1])
- توصل إلى أن الشعر الأوربي تعبيري وهم يفضلون في وصف الحالات،أما العرب فيفضلون في وصف الأشياء لطبيعة البيئة المتغيرة المحاطة بالشعرين .
من أوجه الاختلاف بين الشعرين أن الغربي لا يُفْتقَدُ بالترجمة إلى أي لغة من اللغات الأوربية،في حين يُفتقَد الشعر العربي بالترجمة،لأنها كلها ترجع لأصل واحد وهو اللغة اللاتينية التي هي أم لغاتهم جميعا،في حين اللغة العربية متميزة ومختلفة من بيئة لأخزى...
- وهو التصور الذي نجده في كتاب روحي الخالدي "تاريخ علم الأدب عند الافرنج والعرب وفيكتورهيجو' سنة 1904، يعتبر من أكثر الأعمال التي برز فيها المنهج المقارن بصورة واضحة من خلال اهتمام روحي الخالدي بالكشف عن العلاقات المتبادلة بين الأدبين العربي والغربي من أبرز القضايا التي تطرق لها:
- كان ناقدا حداثيا أقر بتميز هيجو على الشعراء العرب القدامى من خلال تنوعه وعمقه واستثنى من ذلك المتنبي والمعري
- كما جاءت 'الكوميدية أو المضحكة الإلهية' أشبه 'برسالة الغفران' التي وضعها المعري قبل تأليف الكوميدية بأكثر من قرنين
- واستحسن الشعراء في إسبانيا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا دروب الشعر العربي، فنسجوا على منوالها.
- وقبل اختلاط الفرنسيين بعرب الأندلس لم يكن لأشعارهم روي وقوافي فأخذوها منهم
- وأصلح الأندلسيون ما رآه الخالدي خللاً في أدب العرب،واستحدثوا فنوناً في الشعر والنثر، ولو طال أمد حضارتهم لحققوا قفزات أكبر
- قسطاكي الحمصي في كتابه'منهل الوارد في علم الانتقاد' سنة 1906 كان نقديا أكثر منه مقارنا وعقد فيه بابا من الموازنات
- خليل مطران: ترجم مسرحية عطيل لشكسبير وأثار مسألة اقتراب شكسبير من الذوق العربي " إن لنفسية شكسبير شيئا عربيا بلا منازع وهو أبين فيها مما في نفس فيكتورهيجو."
وهنا بدأ الانفتاح على الآخر وعلى الفرنسيين والآداب الفرنسية خاصة ،لكنه انبهار بالدرجة الأولى وانفتاح دون خلفيات تاريخية فلسفية فلم يكن على أساس فكري حضاري لذلك أخذت المقارنة عند العرب في بدايتها ظهور دراسات مقارنة اقتداء بالآخر وليس حاجة إلى دراسة الأدب العربي وتفاعله مع الآخر،ومن درس في فرنسا تبني النظرة الفرنسية ومن درسوا في أمريكا تبنوا النظرة الأمريكية وآخرون تبنوا النظرة الاشتراكية... فبدأ الأدب العربي ينسلخ عن طبيعته الغنائية والتخلص من الأنماط القديمة وتبني أنماط جديدة
كما بدأت بعض المقالات المقارنة بين الأدب العربي والانجليزي،ولم تتطور تلك الدراسات المقارنة لرؤية منهجية لفقدانهم للمنطلق القومي فالعرب كان ضمن عدة توجهات سياسية فلم يكن الأدب العربي أدب واحد ولا أمة واحدة فلا يجمعهم نظام سياسي واحد ولا رقعة جغرافية وماجمعهم 'اللغة'فقط وحتي هي واقعها يختلف من دولة لأخرى فلم تتبلور القومية العربية ما عند الغرب
-فلم يجد المقارنون الأوائل القاعدة الأساسية الفكرية التي تمكنه من معرفة نفسه من خلال الآخر ولمعرفة الآخر
أما مصطلح « الأدب المقارن » فقد ظهر لأول مرة 1936م عند خليل هنداوي وكذلك فخري أبو السعود، في مقالات لهما في مجلة « الرسالة »، وهي ترجمة حرفية عن المصطلح الفرنسي